فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد- والله أعلم- أنه لا يجعل سبحانه في قلب أحد من عباده الصالحين عليهم إحنة، لأن الود- كما قال الإمام أبو الحسن الحرالي: خلو عن إرادة المكروه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يزيد ذلك وضوحًا؛ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبرئيل فقال: يا جبرئيل! إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبدًا دعا جبرئيل فقال: يا جبرئيل! إني أبغض فلانًا فأبغضه، فيبغضه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض».
ولما كان إنزال هذا القول الثقيل ثم تيسيره حفظًا وعملًا سببًا لما جعل لأهل الطاعة في الدنيا من الود بما لهم من التحلي والتزين بالصالحات، والتخلي والتصون من السيئات، الدال على ما لهم عند مولاهم من عظيم العز والقرب، وكان التقدير: والذين كفروا ليكسبنهم الجبار بغضًا وذلًا، فأخبر كلًا من الفريقين بما له بشارة ونذارة، قال مسببًا عن إفصاح ذلك وإفهامه: {فإنما يسرناه} أي هذا القرآن، الذي عجز عن معارضته الإنس والجان، والكتاب القيم والوحي الذي لا مبدل له بسبب إنزالنا إياه {بلسانك} هذا العربي المبين، العذب الرصين {لتبشر به المتقين} وهم الذين يجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية، فلا يبطلون حقًا ولا يحقون باطلًا، ومتى حصلت لهم هفوة بادروا الرجوع عنها بالمتاب، بما لهم عندنا من العز الذي هو ثمرة العز المدلول عليه بما لهم منه في الدنيا، لا لتحزنهم بأن ينزل فيه ما يوهم تسويتهم بأهل المعصية في كلتا الدارين {وتنذر به قومًا لدًّا} أشد في الخصومة، يريدون العز بذلك، لما لهم عندنا من الذل والهوان الناشىء عن المقت المسبب عن مساوىء الأعمال، وأنا نهلكهم إن لم يرجعوا عن لددهم، والألد هو الذي يتمادى في غيه ولا يرجع لدليل، ويركب في عناد الحق ما يقدر عليه من الشر، ولا يكون هذا إلا ممن يحتقر من يخاصمه ويريد أن يجعل الحق باطلًا، تكبرًا عن قبوله، فينطبق عليه ما رواه مسلم في الإيمان عن صحيحه، وأبو داود في اللباس من سننه، والترمذي في البر من جامعه، وابن ماجه في السنة من سننه عن ابن مسعود- رضى الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط- وفي رواية: وغمص- الناس» وكلاهما بمعنى الاحتقار، ومن كان هذا سبيله مرن على ذلك ومرد عليه، فكان جديرًا بأن يركبه الله أبطل الباطل: الكفر عند الموت، فتحرم عليه الجنة، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} [الأعراف: 49] فيا ذل من تكبر على الحق! ويا عز من تشرف بالذل للحق والعز على الباطل! ولعمري لقد أجرى الله عادته- ولن تجد لسنة الله تحويلًا أن من تعود الجراءة بالباطل كان ذليلًا في الحق، وإليه يشير قوله تعالى في وصف أحبابه {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54].
ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول {ينذر}: فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم، عطف عليه قوله: {وكم أهلكنا} بما لنا من العظمة، ولما كان المراد التعميم، أثبت الظرف عريًا عن الجار، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال: {قبلهم من قرن} كانوا أشد منهم شدة، وأكثر عدة، وأوثق عدة، فلم يبق إلا سماع أخبارهم، ومشاهدة آثارهم؛ ثم قال تصويرًا لحالهم، وتقريرًا لمضمون ما مضى من مآلهم: {هل تحس منهم من أحد} ببصر أو لمس {أو تسمع لهم ركزًا} أي صوتًا خفيًا فضلًا عن أن يكون جليًا، فقد ختمت السورة بما بدئت به من الرحمة لأوليائه، والود لأصفيائه، والنعمة للذين خلفوا بعدهم من أعدائه، بعد الرحمة للفريقين بهذا الكتاب بشارة ونذارة فحلت الرحمة على أوليائه، وزلت عن أعدائه. والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}.
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} وللمفسرين في قوله: {وُدًّا} قولان: الأول: وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء تخصيصًا لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظامًا لهم وإجلالًا لمكانهم، والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل قد أحببت فلانًا فأحبوه فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض وإذا أبغض عبدًا فمثل ذلك» وعن كعب قال: مكتوب في التوراة والإنجيل لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا}.
القول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم معنى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} أي يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء، يقال: آتيت فلانًا محبته، وجعل لهم ما يحبون، وجعلت له وده، ومن كلامهم: يود لو كان كذا، ووددت أن لو كان كذا أي أحببت، ومعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة.
والقول الأول: أولى لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز، ولأنا ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وفسرها بذلك فكان ذلك أولى، وقال أبو مسلم: بل القول الثاني أولى لوجوه: أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين.
وثانيها: أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعامًا في حق المؤمنين.
وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أن الله تعالى فعله فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى.
والجواب عن الأول: أن المراد يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء، وروي عنه عليه السلام: أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال: «إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي. وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل» وهذا هو الجواب عن الكلام الثاني لأن الكافر والفاسق ليس كذلك.
والجواب عن الثالث: أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم، أما قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين} فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر، ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين، لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لدًا، ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لابد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضًا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب، ثم أكد تعالى في ذلك فقال: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم برؤية أو إدراك أو وجدان: {وَلاَ يَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} وهو الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية، والأقرب في قوله: {أَهْلَكْنَا} أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْآخِرَةِ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: (وُدًّا فِي الدُّنْيَا). اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأُولَى:
رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَتُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا...» فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَحَادِيثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِضَعْفِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ:
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ: «اتَّقِ اللَّهَ يُحِبَّك النَّاسُ، وَإِنْ كَرِهُوك»، فَقَالَ: هَذَا حَقٌّ، وَقَرَأَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ. وَقَرَأَ مَالِكٌ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي}. وَهَذَا يُبَيِّنُ سَبَبَ حُبِّ اللَّهِ، وَخَلْقَهُ الْمَحَبَّةَ فِي الْخَلْقِ؛ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الشَّرِيعَةِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّهْيِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمنُ وُدًّا}.
فيه وجهان:
أحدهما: حبًا في الدنيا مع الأبرار، وهيبة عند الفجار.
الثاني: يحبهم الله ويحبهم الناس، قال الربيع بن أنس: إذا أحب الله عبدًا ألقى له المحبة في قلوب أهل السماء، ثم ألقاها في قلوب أهل الأرض.
ويحتمل ثالثًا: أن يجعل لهم ثناء حسنًا. قال كعب: ما يستقر لعبد ثناء في الدنيا حتى يستقر من أهل السماء. وحكى الضحاك عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه جعل له ودًّا في قلوب المؤمنين.
قوله عز وجل: {قَوْمًا لُّدًّا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: فجّارًا، قاله مجاهد.
الثاني: أهل إلحاح في الخصومة، مأخوذ من اللدود في الأفواه، فلزومهم الخصومة بأفواههم كحصول اللدود في الأفواه، قاله ابن بحر.
قال الشاعر:
بغوا لَدَدَي حَنقًا عليَّ كأنما ** تغلي عداوة صدرهم في مِرجل

الثالث: جدالًا بالباطل، قاله قتادة، مأخوذ من اللدود وهو شديد الخصومة. قال الله تعالى: {وَهُوَ الْخِصَامِ} وقال الشاعر:
أبيت نجيًا للهموم كأنني ** أخاصم أقوامًا ذوي جدلٍ لُدّا

قوله عز وجل: {وِكْزًَا} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: صوتًا، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك.
الثاني: حِسًّا، قاله ابن زيد.
الثالث: أنه ما لا يفهم من صوت أو حركة، قاله اليزيدي. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {سيجعل لهم الرحمن ودًا}.
ذهب أكثر المفسرين الى أن هذا هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده حسبما في الحديث المأثور، وقال عثمان بن عفان إنها بمنزلة قول النبي عليه السلام «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها» وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد إلا وله في السماء صيت فإن كان حسنًا وضع في الأرض حسنًا وإن سيئًا وضع كذلك» وقال عبدالرحمن بن عوف: إن الآية نزلت فيه وذلك أنه لما هاجر بمكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية في ذلك، أي ستستقر نفوس المؤمنين ويودون حالهم ومنزلتهم، وذكر النقاش أنها نزلت في علي بن أبي طالب، قال ابن الحنفية: لا تجد مؤمنًا إلا وهو يحب عليًا وأهل بيته، وقرأ الجمهور: {وُدًا} بضم الواو، وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتح الواو، ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى، أي إن الله تعالى لما أخبر عن إيتان {كل من في السماوات والأرض} في حالة العبودية والانفراد أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم {ودًا} وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله لعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه له.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ}.
الضمير في {يسرنا}، وهذا كقوله: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] لأن المعنى يقتضي المراد وإن لم يتقدم ذكره، ووقع التيسير في كونه بلسان محمد عليه السلام وبلغته المفهومة المبينة، وبشارة {المتقين} هي الجنة والنعيم الدائم والعز في الدنيا، و(القوم اللد) هم قريش ومعناه مجادلين مخاصمين بباطل، والألد الخاصم المبالغ في ذلك، وقال مجاهد {لدًا} فجارًا ع: وهذا عندي فجور الخصومة ولا يلد إلا المبطل. والألد والألوى، بمعنى واحد، وفي الحديث: «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم» ثم لما وصفهم الله تعالى بأنهم لد وهي صفة سوء بحكم الشرع والحق وجب أن يفسد عليهم بالوعيد والتمثيل بإهلاك من كان أشد منهم وألد وأعظم قدرًا ما كان يسرهم في أنفسهم من الوصف بلد فإن العرب لجهالتها وعتوها وكفرها كانت تتمدح باللد وتراه إدراكًا وشهامة فمن ذلك قوله الشاعر: الخفيف:
إن تحت الأحجار حزمًا وعزمًا ** وخصيمًا ألد ذا مغلاق

فمثل لهم بإهلاك من قبلهم ليحتقروا أنفسهم، ويبين صغر شأنهم وعبر المفسرون عن (اللد) بالفجرة وبالظلمة وتلخيص معناها ما ذكرناه، و(القرن) الأمة، و(الركز) الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم وإنما هو صوت الحركات وخشفتها ومنه قول لبيد:
فتوجست ركز الأنيس فراعها ** عن ظهر غيب والأنيس سقامها

فكأنه يقول أو تسمع من أخبارهم قليلًا أو كثيرًا أو طرفًا خفيًا ضعيفًا وهذا يراد به من تقدم أمره من الأمم ودرس خبره، وقد يحتمل أن يريد هل بقي لأحد منهم كلام أو تصويت بوجه من الوجوه فيدخل في هذا من عرف هلاكه من الأمم. اهـ.